الرعاية الصحيةالصحة المستدامة

دار العجزة حضن سقفها الإنسانية

تقريــــــــر : سارة توغر   

هي دار العجزة بمنسوب كبير من الإنسانية والعلاقات العائلية المكتسبة هناك. بين جميع نزلائها حكايات أوصلتهم إلى حنين افتقدوه في من تربطهم بهم علاقة قرابة أو حتى بنوة. لكن في هذا الفضاء الذي تأسس منذ سنة 2008 ، ويعد نموذجا في المؤسسات ذات الخدمة الاجتماعية، وجدوا حضنا بحجم السماء.  

مثل أطفال يتعلمون المشي بعد حبو طويل، كانوا يتمشون ببطء شديد في ساحة المؤسسة التي، تأويهم وتأوي سيرة حياة كل واحد منهم. من لم يغريه المشي، ذلك الصباح، كان جالسا فوق كرسي، يتعكز عكازه و يتأمل قدره بسهو  قريب إلى السخرية. المشي قدرهم اليومي. الحنين علتهم الأبدية. الحكي جزء من  الذاكرة إن لم يخنها التذكر، والتجاعيد خرائط محفورة على وجوه تغري بالقراءة، قراءة حكاية من صار الملجأ بيتهم الأخير، وحضنا يلين أقفاصهم الصدرية المعتلة بحنين أو تخلي أو غبال. وحدها أغاني  مغربية أصيلة لرواد الغناء المغربي، تكسر الصمت من مكبرصوت يوزع اللحن على الفضاء، ويروض ذاكرة  النزلاء على إسقاط كلماتها على الحال: “دنيا يا دنيا”، رحل مركبنا بين لمواج تلف وتاه، يا لْغافٍخهخل، للمطربة   شكون سْمعني وْفْهْمْني أو ادْهآ  فِييَا..   كلمات مالت رؤوس بعضهم  لها بألم ظاهر، بحنين مأسوف على زمن ضاع، لكن بحمد أكثر على مآلهم في مؤسسة تصنف نموذجية، وتعتمد على أخصائيين ومتخصصين في رعايتهم وتنشيط هرمون السعادة مهما بلغت قسوة العمر .

المسنون ذاكرة وتاريخ

“عندما نقوم  بشيء نحبه، نصير سعداء، والسعادة لا نصدرها نحو الآخر فقط، بل نستقبلها منه حتى ولو كان هو مصدر احتياج وضعف اجتماعي ونفسي”. الكلام للدكتورة منى معمر، رئيسة المركز الاجتماعي للأشخاص المسنين بحي النهضة بالعاصمة الرباط، وأستاذة بكلية طب المسنين الذي دخلته عن حب، رئاستها للمركز ترجم الحب القديم فيها لفئة عمرية تدين لها بكمية كبيرة من الإنسانية والحكمة، ولا تجد مانعا من الاعتراف: “المسنون تاريخ ومعيش وذاكرة” قالت جملتها وهي تمسك بين يديها بصورة تجمع ثلاثة مسنين من نزلاء الدار، أوصت واحدة من فريق العمل بأن تضع كل صورة إطارا،  وتعلقها بجدران المركز كما جرت العادة.  الدار دارهم، ومن عاداتنا في بيوتاتنا العائلية تعليق صور  أهلها كنوع من الاعتراف بمكانتهم في تاريخ العائلة. هكذا، لا يمكن أن  تلتقط بداية من مدخل المركز حتى غرفه وساحاته الكبييرة غير كونه مؤسسة عائلية لعائلة ممتدة، الأجداد فيها هم القاعدة الغالبة، وهم من يستولون على الفضاء وعلى الحياة فيه وعلى جودة العلاقات أيضا.  الدرس الإنساني في إيقاع يومياتهم هو الأقوى، والحب شرط يجمع الجميع ويمسح من البال علاقة مؤسسة بنزلاء في وضعية احتياج وضعف.  والقانون الأساسي هو نظام، وواحد من بنوده مشاركة النزلاء مائدة الأعياد لمن استطاع إلى ذلك سبيلا. مديرة المؤسسة تأخذ أبناءها ليلة الأعياد إلى بيتها الثاني،  بيت الأجداد كما تسميه، لتشاركهم فرحة المناسبة . علاقة عائلية قوية نشأت في حضن الدار وكانت في حاجة إلى فلسفة من آمنت بالمشروع، ومن رشحت  لرئاسته بعد ولاية سابقة، ومن تتحدث عنه بحب لا فقط بمسؤولية مديرة.”عندما نقوم  بشيء نحبه، نصير سعداء، والسعادة لا نصدرها نحو الآخر فقط، بل نستقبلها منه حتى ولو كان هو مصدر احتياج وضعف اجتماعي ونفسي”.

في الحاجة إلى عناق

بحي النهضة الذي اشتهر بأشهر منصة  مهرجان موازين الدولي والتي وقف عليها كبار الفنانين العرب: محمد عبدو، سميرة سعيد، وردة الجزائرية، ماجدة الرومي ..تقع

دار للعجزة. واجهة شاسعة تطل على شارع يحمل اسم الوزير والمسشار السابق للملك الراحل الحسن الثاني  أحمد رضا كديرة. لكن ولادة المركز كانت في عهد ملك البلاد محمد السادس سنة 2008 ،  الهدف صيانة كرامة المسن والمسنة، وتقوية مناعتهم ضد التخلي، مشروع بني  وجهز من قبل مؤسسة محمد السادس، شارك فيه محسنون ومؤسسات لها علاقة بالقطاع الاجتماعي. في المدخل تقرأ: الاستقبال، التوجيه، المساعدة، الايواء الدائم أو المؤقت ، التتبع الصحي الجسدي والنفسي، تنظيم أنشطة ترفيهية وورشات للتكوين والتعلم … هي مقدمة لأشياء كثيرة تقام وتنظم بإملاء من المسؤولية الواجبة، لا فقط التعاطف والعطف.”المراد هو إقامة مؤسسة إنسانية روحيا وماديا، لذي إيمان بأن كل ما يرتكز على البعد الإنساني ويدعم بالعمل الاجتماعي يصير نموذجا من حيث النتائج. ولا شك أن هذه هي أسس مهنة الطب التي أمارسها، وقد أهلتني لاختياري رئيسة المؤسسة من قبل المجلس القديم مع أني لم أقدم ترشيحا لذلك. في هذا الوقت، كنت أمارس وأدرس طب المسنين. مهنة اجتمع لي منها ما تفرق ربما في الكثير ممن يمارسها لأني لم أكن أفصلها عن العمل الجمعوي الموجه إلى فئة عمرية تحتاج إلى أقصى درجات الإنسانية” الكلام لمنى، الدكتورة وحارسة دار المسنين بقلب يشعر بأنها إبنة لكل نزلائها.

الاحتياج شرط الاستفاذة من الدار

لا اعتباطية في قبول من يرغب في الاستفاذة من الإقامة بدار المسنين حي النهضة. شروط المؤسسة أن يكون المعني في حالة احتياج أو أن ظروف عيشه في وسط ما ينقصه الأمن و الكرامة.  الغالبية، هنا، جربت حياة الشارع، أو عانت من تهديد ما بأن تفترش الأرض وتحت السماء، والغالبية لها أصول وأبناء وأسر، لكن، كل أقاربها  بدون عاطفة ولا مسؤولية ولا حكم رابطة الدم.  لا حب يدفع إلى العناية ب  كبير السن، ولا قيمة له في لحمتها العائلية، والغالبية، أيضا، مسحت ذاكرتها من  ماضيها، وارتمت في حضن مؤسسة لإعادة ترتيب ما تبقى من حياتها تحت بيت سقفه حب وتضامن، وأركانه قلوب تحمل الدفء لمن خانهم آخر العمر، أو هوت بهم عاطفة العائلة نحو الفراغ والوحدة.

ذوو القربى أشد ظلما

je m appelle laila

“اسمي ليلى”. قالتها بفرنسية أنيقة

je m appelle laila ، ثم واصلت تقديم نفسها كأنها في فصل دراسي بداية السنة.  لم تنتظر سؤالا ونحن نلتقي بها بين ممر الغرف وصالون جلوسهن. هي تنتمي ثقافيا إلى المفرنسين. مؤهلاتها اللغوية وهي تحكي جزء من سيرة حياتها السابقة جعلها تقف طويلا عند مرحلة اشتغالها في سفارة تشيكوسلفاكيا، وملكيتها لمنزلين قام شقيقها ببيعهما بوكالة أعطته إياها، لكنه احتفظ بمبلغ البيع في حسابه البنكي، وتلك مقدمة التشرد التخلي والتنكر لها،. وجدت ليلى في المركز حماية وحضنا لها  أرحم مما فعله الأخ الشقيق بها. والكلام لها:  لم أجد الخير في عائلتي التي هي  من دمي ، هنا هي عائلتي بالإنسانية، وهنا أحبابي الذين عالجوني وحضنوني وأشعروني بالأمان، صعب أن أقوم بمقارنة من تجمعني بهم القرابة وبين من ألهمهم الله الخير “.

الحكايات يكاد يشبه بعضها البعض الآخر. لا أحد من النزلاء بدأ يحكي دون  أن يعصر ملامحه تعبيرا عن ألم ما.  التنكر بسبب الهشاشة الصحية أو المادية أو الاجتماعية أنتج لنا مسنون متخلى عنهم، لكنهم بذاكرة صارت تعرف كيف تصفي ما يفرحها لتعيش بأمان.

 بلغت قرنا وصارت فنانة تشكيلية!  

مائة سنة من الخبرة في الحياة، ذلك ما يعكسه عمرها الذي صار أندى من ورد الفل عندما يبلله المطر، الحالة الأخيرة نتجت عن  اهتدائها إلى موهبة بداخلها. امرأة بجبين مقطب وبالتواءات بفعل الزمن.  لا تعرف من تاريخ ولادتها غير كون الملك الراحل الحسن الثاني يكبرها بسبعة أيام كما قيل لها. اسمها رقية، تنتمي إلى ساكنة جبال الأطلس المتوسط، استنطاق ذاكرتها يجعلك تعرف أنها  تحتفظ بكيف كان القائد يبسط سلطته لتزويج  بنات المنطقة لرجال نفس المنطقة حتى يمنع  زواجهن بغرباء، لذلك طرد والدها من الدوار لأنه يزوج بناته للغرباء. تزوجت رقية وعمرها لا يتجاوز 11 عاما. تغيرت ظروفها بعد فشل زواجها وبعد مرور السنوات لتجد نفسها في دار المسنين، إقبالها على الحياة لم يمنعها من  تعلم الفن التشكيلي داخل  المركز الذي استعان بفنان تشكيلي محترف  لتعليمهن تقنيات  التشكيل.  لم يهزم السن رقية،  رغبتها وسرعة استجابتها جعلها تعرض لوحاتها في معارض نظمتها المؤسسة للاعتراف بواحدة من إنجازاتها في خدمة المسنين. رقية  تستعد لمعرض آخر بعد أن احتفلت بقرن وعايشت زمن ثلاثة ملوك مغاربة.

حنين في الذاكرة

تقول منى  معمر مديرة المركز: “هناك معاناة حتى ولو كانوا  سعداء بسبب الخدمات المقدمة لهم” تقصد معاناة نفسية جراء غدر الزمن أو العائلة أو غياب تام للأصول والخلف. غير أن الاستماع لهم يعكس منسوب فرح مصدره عند البعض،  كمية الاتزام والخدمة المقدمة لهم في الدار، أو تذكر البعض الآخر، فردا من العائلة له شهرة وطنية، وأن اسمه المشترك معه يجلب الفخر ويحرر من الغربة في الوجود. “فاطنة  الحياني”، مسنة لا تتذكر كم بلغ بها العمر إلا بعد أن ذكرتها عضوة بالمركز بأنها بلغت 93  عاما، لكنها تتذكر ابن عمها الراحل محمد الحياني وحسين الحياني رئيس فرقة كرة القدم كما قالت. لم تعد حياة الماضي تعنيها في شيء، لأن سعادتها ربطتها بلباس أنيق ونقي يحمي جسدها العليل، ويحفظه من شر الزمن: واش كنت نحلم نلبس بحال هاذ اللباس؟ الحمد لله.

كل يغني على ليله

الكثير من الفراغات النفسية تقفز حتى مع وجود الرضى، لترسم انفراج ملامحهم برؤية زائر. الحاجة إلى ونيس جديد يغري لتزجية الوقت الميت من زمن الملجأ. بعضهم يمسك بآخر كلمة في أغاني الزمن الجميل ويدندن كأنه في بروفا تسبق حفلا لن يحضره إلا كبار العمر: “ورحل مركبنا وبين المواج تلف وتاه” ، لاصدفة تلعب لعبتها حتى عندما تأتي أغنية على مقاس تجربة حياة قاسية، فتصير كأنها كتبت لمي رقية أو فاطنة أو ليلى أو با عربي، الرجل الأنيق كما تسميه منى رئيسة المؤسسة. لا اختلاف، كل يسقط الغربة على ليله وإن كانت ليلى بالجوار.

 

زر الذهاب إلى الأعلى