تصل قيمتها الاقتصادية إلى 37 تريليون دولار لكل سنة.. التدخلات العلاجية لإبطاء الشيخوخة بين الحقيقة والوهم
تعود الجهود المبذولة لمكافحة الشيخوخة وإطالة عمر الإنسان إلى ما لا يقل عن 3500 قبل الميلاد، وقد وصف الخبراء الذين نصبوا أنفسهم إكسيرًا مضادًا للشيخوخة منذ ذلك الحين.
لطالما حظيت فكرة الخلود بجاذبية عالمية، مما دفع الإسكندر الأكبر وبونس دي ليون للبحث عن ينبوع الشباب الأسطوري وتغذية رغبة الكيميائيين في تصنيع الذهب (كان يُعتقد في السابق أنه أقوى مادة مقاومة للشيخوخة في الوجود). لكن صقور “العلاجات” المضادة للشيخوخة أخذ منعطفًا مثيرًا للقلق بشكل خاص مؤخرًا. بشكل مقلق، تقوم أعداد كبيرة من رواد الأعمال بإغراء العملاء الساذجين واليائسين في كثير من الأحيان من جميع الأعمار إلى عيادات “طول العمر”، بدعوى وجود أساس علمي للمنتجات المضادة للشيخوخة التي يوصون بها ويبيعونها في كثير من الأحيان.
انزعاجًا من هذه الاتجاهات، أصدر العلماء الذين يدرسون الشيخوخة، بيان موقف يحتوي على هذا التحذير: لم يثبت حتى الآن أي تدخل مُسوق حاليًا – لا شيء – أنه يبطئ أو يوقف أو يعكس شيخوخة البشر، ويمكن أن يكون البعض بصراحة خطير.
وبينما يتم قصف الجمهور بالضجيج والأكاذيب، يقوم العديد من علماء الأحياء بدراسة مكثفة للطبيعة الأساسية للشيخوخة معتقدين أن أبحاثهم ستقترح في النهاية طرقًا لإبطاء تقدمها وبالتالي تأجيل العجز وتحسين نوعية الحياة. لكن أي شخص يزعم أنه يقدم منتجًا مضادًا للشيخوخة اليوم هو إما مخطئ أو كاذب.
محاولات
مؤخرًا كشف دراسة نشرتها دورية “نيتشر-أيدجنج”، عن استخدم الباحثون البيانات الاقتصادية والصحية والديموغرافية الأمريكية لتحديد القيمة التي يُمكن أن يجلبها ذلك التدخلات العلاجية لإبطأ الشيخوخة؛ إذ أظهروا أن العلاجات التي تبطئ الشيخوخة يمكن أن تصل قيمتها الاقتصادية إلى 37 تريليون دولار لكل سنة إضافية من الحياة تقدمها للناس.
هذا لا يعني أن تلك الأدوية ستباع بذلك المبلغ الهائل، لكن القيمة الاقتصادية التي ستجلبها ستساوي ذلك المبلغ.
في هذه الدراسة، عمل الباحثون على تحليل البيانات الموجودة لتقييم القيمة الاقتصادية للزيادات في متوسط العمر المتوقع، والتحسينات في الصحة والعلاجات التي تستهدف الشيخوخة، أظهر الباحثون أن استهداف الشيخوخة يوفر مكاسب اقتصادية محتملة أكبر من القضاء على الأمراض الفردية؛ فالتباطؤ في الشيخوخة الذي يزيد من متوسط العمر المتوقع بمقدار عام واحد يجلب فوائد اقتصادية تُقدر بـ37 تريليون دولار أمريكي (التريليون يساوي ألف مليار)، وإذ ما بلغت الزيادة 10 سنوات، ستصل القيمة الاقتصادية لنحو 367 تريليون دولار أمريكي، وفق الدراسة؛ فكلما زاد التقدم الذي أُحرِز في تحسين تقدمنا في العمر، زادت قيمة التحسينات الإضافية.
ما فائدة طول العمر دون صحة جيدة!
يقول الباحث في قسم الاقتصاد بكلية لندن للأعمال، أندرو سكوت، وهو المؤلف الأول لتلك الدراسة: إن العلاجات التي تركز على تأخير الشيخوخة أو حتى عكسها “تصبح ذات قيمة كبيرة مقارنةً بالعلاجات التي تركز على أمراض معينة فقط مثل السرطان والخرف وما إلى ذلك”، ويشير “سكوت” في تصريحات خاصة لـموقع “للعلم” إلى أن لتأخير الشيخوخة فوائد؛ “إذ تقلل من حدوث العديد من الأمراض، وتؤدي إلى زيادة أكبر في جودة الحياة”، يقول “سكوت”: “نحن نقدر القيمة الاقتصادية للعلاجات التي تؤخر الشيخوخة عند زيادة متوسط العمر المتوقع بمقدار عام واحد، بقيمة 37 تريليون دولار”.
يعيش الناس أطول من أي وقت مضى، ولكن هناك اعترافًا متزايدًا بأن متوسط العمر المتوقع الأطول لا فائدة منه إلا إذا قمنا أيضًا بتأخير التدهور الجسدي المرتبط بالشيخوخة، ويشير البحث إلى أن فعل ذلك يساوي تريليونات الدولارات من المكاسب الاقتصادية.
على مدى القرن الماضي، ارتفع متوسط العمر المتوقع في جميع أنحاء العالم بفضل التحسينات في الطب والنظام الغذائي والتعليم، ومع ذلك، في كثير من الأحيان لا نتمكن من الاستفادة المثمرة من السنوات الإضافية؛ لأن الشيخوخة مرتبطة بمجموعة من الأمراض والضعف الجسدي العام والإعاقة.
لذا يركز العلماء تركيزًا متزايدًا على زيادة فترات الحياة مع توافر الصحة بدلًا من زيادة العمر بشكل عام، وزيادة الحياة بصحة يُمكن تعريفها بكونها عدد السنوات التي يعيشها الشخص بصحة جيدة.
ومفتاح هذا النهج هو التحول في التركيز من علاج الأمراض الفردية في الشيخوخة إلى استهداف عملية الشيخوخة ذاتها؛ فإلى جانب السماح للناس بالاستمتاع بسنواتهم المتقدمة من العمر، فإن الحجة القوية لهذا النهج هي أن تعزيز مدة تمتُّع الناس بالصحة سيتيح لهم أيضًا أن يبقوا منتجين اقتصاديًّا لفترة أطول، وقد يكون ذلك حاسمًا بالنسبة لمستقبل البلدان في جميع أنحاء العالم المتقدم التي تواجه انخفاض معدلات المواليد وزيادة شيخوخة السكان.
مخاطر المنافسة
هذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها العلماء تحديد القيمة الاقتصادية لإبطاء الشيخوخة.
ففي دراسة سابقة، صمم العلماء نموذج محاكاة مصغرًا للوقوف على سيناريوهات القيمة الاقتصادية لمكافحة الأمراض الفردية -كالسرطان وأمراض القلب وغيرها- مقارنةً بسيناريو تأخير الشيخوخة.
وأفادت الدراسة -المنشورة عام 2013- أن تأخر الشيخوخة والأمراض المصاحبة لها بمقدار 2.2 سنة سيجلب فوائد اقتصادية تُقدر بـ7.1 تريليونات دولار على مدى خمسين عامًا، وعلى النقيض، فإن معالجة أمراض القلب والسرطان بشكل منفصل من شأنه أن يؤدي إلـى تراجُع التحسينات في الصحة وطول العمر بحلول عام 2060.
يرجع ذلك أساسًا إلى ما يُعرف باسم “المخاطر المتنافسة”؛ فعلاج الأمراض الفردية سيؤدي بالفعل إلى إطالة أعمار الأشخاص، لكن شيخوختهم ستشكل في الوقت ذاته أعباءً اقتصاديةً واجتماعيةً كبيرة؛ إذ ستتزامن عملية الشيخوخة بالنسبة لملايين الأشخاص مع الإصابة بتلك الأمراض، لكن زيادة الاستثمار في الأبحاث التي تؤدي إلى تأخير الشيخوخة هي طريقة فعالة للغاية لمنع المرض، وإطالة الحياة الصحية وتحسين الصحة العامة، ما يخفض من ميزانيات علاج كبار السن بصورة كبيرة، كما يجعلهم قادرين على العمل حتى سن متقدمة.
قيمة الحياة الإحصائية
إلا أن قيمة العوائد الاقتصادية في الدراسة الجديدة تبلغ أضعاف القيمة التي توصلت إليها الدراسة السابقة، وهذا يرجع إلى اعتماد الدراسة الجديدة على منهجية مختلفة تُعرف باسم قيمة الحياة الإحصائية.
وقيمة الحياة الإحصائية هي تلك القيمة التي تُستخدم لتحديد فائدة تجنب الوفاة، وتُعرف أيضًا بأنها التكلفة الحدية لمنع الموت تحت ظروف معينة، وتعتمد تلك القيمة أيضًا على عدد من المتغيرات، كنوعية الحياة ومدة الحياة المتوقعة المتبقية، وإمكانيات الكسب في أثناء العمر المتوقع، وهو مفهوم يدمج الصحة والاستهلاك ووقت الفراغ، وبالتالي لا يقيس كمية الحياة فحسب، بل نوعية الحياة وجودتها أيضًا.
وتستخدم مختلف الوكالات الأمريكية هذه المنهجية لحساب المبالغ التي سيكون الناس على استعداد لدفعها من أجل تقليل مخاطر الموت.
نتيجةً لذلك، يحقق النهج نتائج مختلفة عند تطبيقه على سيناريوهات مختلفة، وقد استخدمه الباحثون لتقييم ثلاثة سيناريوهات، أولها القيمة الاقتصادية لزيادة العمر دون أخذ الصحة في الاعتبار، والثاني فترة الحياة الصحية دون أخذ العمر في الاعتبار ، أما الثالث فهو زيادة العمر مع تحسين الصحة.
ووجدوا أن الزيادات في فترة الصحة كانت أكثر قيمة، لكن كلا السيناريوهين كان أقل جاذبيةً بشكل ملحوظ من السيناريو الذي زادت فيه مدة الصحة والعمر معًا، وهو ما يمكن توقعه مع علاجات مكافحة الشيخوخة الناجحة.
سعر الأدوية
لكن.. هل يُمكن أن يقدم البشر على شراء أدوية تأخير الشيخوخة على الرغم من أنها قد تكون باهظة الثمن؟
يقول “سكوت” في تصريحاته صحفية لموقع للعلم”: إن إدارة الغذاء والدواء الأمريكية تُرخص الكثير من الأدوية باهظة الثمن لعلاج الخرف أو السرطان، “أستطيع أن أقول إن أدوية الشيخوخة سيكون لها سوق كبيرة؛ نظرًا إلى أن المزيد والمزيد من الأطفال الذين يولدون في جميع أنحاء العالم يتوقعون العيش في سن الشيخوخة، ما يزيد من قيمة هذه المرحلة العمرية من حياة الإنسان ويجعلها تصبح أكثر قيمة، وهذا يجعل الأدوية التي تساعدنا في التقدم في السن جذابةً للغاية حتى لو كانت باهظة الثمن”.
لكنه يعود ويؤكد أنه من الواضح أن سعر الأدوية سيكون تحديًا كبيرًا؛ “فالعمل على التأكد من أن الأدوية رخيصة الثمن، وأن الاقتصاد يستجيب للأشخاص الذين يشيخون بشكل أفضل من خلال دعمهم للعمل مدةً أطول للمساعدة في دفع هذه التكاليف، أمرٌ بالغ الأهمية”.
من أجل تقييم أكثر دقةً لمدى قوة العلاج العام المضاد للشيخوخة الذي يمكن مقارنته ببساطة بمعالجة أمراض معينة، تحول الباحثون بعد ذلك إلى نتائج دراسة حديثة على المرضى الذين يتناولون الميتفورمين، صُمم هذا الدواء لعلاج مرض السكري، لكنه تلقَّى اهتمامًا مؤخرًا بسبب آثاره المحتملة في مكافحة الشيخوخة.
وكانت دراسة نُشرت عام 2017، أُجريت على 40 ألف رجل من كبار السن يعانون من مرض السكري، قد كشفت عن أن الدواء قلل من حدوث مجموعة من الحالات المرضية المرتبطة بالشيخوخة، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والخرف والسرطان.
طبق الباحثون الانخفاض النسبي الموجود في هذه الدراسة على بيانات عن عدد الوفيات والسنوات المفقودة بسبب المرض بسبب كلٍّ من هذه الحالات في الولايات المتحدة، ووجدوا أن فوائد العلاج بالميتفورمين من حيث زيادة متوسط العمر المتوقع غالبًا ما تتطابق من الناحية الاقتصادية مع تلك الناتجة عن الاستئصال الكامل للسرطان أو الخرف أو أمراض القلب والأوعية الدموية، أو تتجاوزها.
ولمعرفة القيمة الإجمالية للعلاج المضاد للشيخوخة الذي يمكن أن يُطيل كلًّا من العمر والفترة الصحية، درس الباحثون سيناريو ثالثًا اعتمد على بيانات مكتب الإحصاء الأمريكي الحالية حول السكان، وهيكلهم العمري، ومعدلات المواليد.
وجد الباحثون أن قيمة الزيادة لسنة واحدة في متوسط العمر المتوقع ستكون 37.6 تريليون دولار، وبالنسبة للزيادة لمدة 10 سنوات، سترتفع إلى 366.8 تريليون دولار.
والأكثر إثارةً للاهتمام، أنهم اكتشفوا أن سيناريو مكافحة الشيخوخة هذا سيخلق دائرةً حميدة؛ لأنه نظرًا إلى أن الشيخوخة المتأخرة تزيد من متوسط عمر المجتمع ونوعية الحياة في السنوات اللاحقة، فإن المزيد من الناس سيستفيدون من المزيد من التحسينات في العلاجات المضادة للشيخوخة.
من المستفيد؟
لكن؛ هل سيستفيد كل البشر بشكلٍ متساوٍ من القيمة الاقتصادية المضافة التي قد تحققها تلك الأدوية؟
يقول أستاذ السياسة العامة والاقتصاد الصيدلاني ومدير مركز شيفر للسياسة الصحية والاقتصاد في جامعة “ساوث كاليفورنيا” الأمريكية، دان جولدمان، الذي لم يُشارك في الدراسة: إن تلك الأدوية “أكثر قيمةً بالنسبة للدول الأكثر ثراءً”؛ ففي تلك الدول من المتوقع أن يعيش غالبية الأطفال إلى عمر الثمانينيات والتسعينيات من العمر، “تمتلك هذه البلدان أيضًا المزيد من الأموال لتنفقها، ومن الواضح أن هذه السوق المنتظرة ستقودها هذه البلدان في البداية”.
من المؤسف أن بلدان العالم الثالث لديها مستويات أعلى من وفيات الرضع ومتوسطات عمر أقل، مما يجعل العلاجات التي تهدف إلى الشيخوخة أقل قيمةً بالنسبة لهم، على حد قول “جولدمان”، الذي يؤكد أن الأدوية ليست الطريقة الوحيدة لتحقيق شيخوخة صحية؛ “فالدول الفقيرة يُمكن أن تُنجز تحولًا كبيرًا في مجال الصحة الوقائية لتحقيق الهدف نفسه”.
ويؤكد “جولدمان” أيضًا نقطةً ذات أهمية كبيرة؛ إذ يُشير إلى أن نتائج الدراسة مرهونة بوجود دواء مثبتة قيمته في تأخير الشيخوخة بشكل علمي؛ فعدم فاعليةبعض التدخلات المضادة للشيخوخة يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على رفاهية المرضى والمستهلكين، وقد يؤدي الانخراط في علاج غير فعال لمكافحة الشيخوخة إلى منع المرضى من المشاركة في أنظمة أخرى قد تكون مفيدة، منعًا لإهدار الأموال التي يمكن استخدامها في التدخلات الطبية المفيدة.
يقول مؤلف الدراسة “سكوت”: إنه من المهم تأكيد أن سكان العالم الأول لديهم أعلى نسبة من كبار السن؛ “فهناك عددٌ أقل من الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 60 عامًا على قيد الحياة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل مقارنةً بالبلدان ذات الدخل المرتفع”، مؤكدًا أن “كيفية التعامل مع كبار السن تشكل تحديًا لجميع البلدان”.
من المتوقع وفق المؤشرات الصحية الحديثة أن يعيش الأطفال المولودون اليوم حياةً أطول من الأجيال السابقة، هذا يعني أن العلماء بحاجة إلى التفكير أكثر بكثير بشأن صحة هؤلاء الأطفال في المستقبل، يقول “سكوت”: إن “العمر الطويل شيء جيد، ولكن ليس إذا اقترن بصحة سيئة”، لذا، فتحسين كيفية تقدمنا في العمر يتعلق بما نفعله طوال حياتنا؛ “نظرًا إلى أن المزيد والمزيد من الوفيات والأمراض ناجمٌ عن الأمراض المرتبطة بالعمر، إذ تمثل الأمراض غير السارية الآن حوالي 75٪ من إجمالي أسباب الوفيات”.
يتوقع “سكوت” أن تشهد الأبحاث تحولًا من التركيز على علاج الأمراض الفردية إلى استهداف المسارات الأساسية من الشيخوخة؛ “فالوقاية من الشيخوخة المرضية خيرٌ ألف مرة من علاجها”.