• العلاج النفسي بين البيولوجيا والمعرفة: نحو فهم متكامل للصحة النفسية
"الاضطرابات النفسية من الدماغ إلى السلوك"

عندما نتحدث عن الاضطرابات النفسية، نجد أن التفسيرات تتوزع بين مدارس مختلفة. فـ النموذج الطبي يرى أن المرض النفسي هو خلل في الدماغ أو في التوازن الكيميائي العصبي، تمامًا كما يُفهم مرض القلب أو السكري كخلل عضوي. هذا المنظور ساعد على تطوير الأدوية والعلاجات البيولوجية التي خففت من معاناة الملايين، وأعطت للصحة النفسية شرعية طبية طالما افتقدتها.
لكن الاقتصار على هذا التفسير وحده قد يجعلنا نغفل عن حقيقة أن الإنسان ليس دماغًا فقط، بل كائن يعيش في شبكة من الأفكار والعلاقات الاجتماعية والسلوكيات. وهنا يبرز دور النماذج السلوكية والمعرفية، التي ترى أن الاضطراب النفسي قد يكون نتيجة لأنماط تفكير غير متكيفة أو سلوكيات مكتسبة يمكن تعديلها. العلاج السلوكي المعرفي (CBT) مثلًا، يساعد المريض على التعرف إلى أفكاره السلبية، وفهم كيف تؤثر على مشاعره وسلوكه، ثم استبدالها باستجابات أكثر توازنًا.
بالنسبة للاكتئاب مثلا، من منظور النموذج الطبي يُفهم الاكتئاب كخلل في الناقلات العصبية مثل السيروتونين، ويُعالج غالبًا بالأدوية المضادة للاكتئاب أما من منظور النموذج السلوكي/المعرفي يُفهم الاكتئاب كنتيجة لأفكار متشائمة سلبية متكررة (” الكل يكرهني” “لن أنجح أبدًا”، “لا أحد يهتم بي”) وسلوكيات انسحابيه (العزلة، قلة النشاط). العلاج هنا يركز على تعديل التفكير السلبي وتشجيع المريض على الانخراط في أنشطة تعيد له الإحساس بالمعنى.
هنا تظهر ضرورة التكامل ، لماذا نحتاج التكامل؟
من الواقع الميداني و من خلال التجارب يتضح أن كلا المنهجين يكمل الآخر. فالأدوية قد تساعد المريض على استعادة التوازن الكيميائي، لكنها لا تعلّمه كيف يواجه ضغوط الحياة أو يعيد بناء نظرته لذاته. في المقابل، العلاج السلوكي المعرفي يمنحه أدوات عملية للتعامل مع التحديات، لكنه قد يكون أقل فاعلية إذا كان الخلل البيولوجي شديدًا.
من هنا، يصبح التكامل بين الطب والعلاج النفسي هو الطريق الأمثل: دواء يخفف الأعراض، وعلاج سلوكي معرفي يعيد للإنسان قدرته على التكيف والنمو.

في النهاية، لا يمكن للصحة النفسية أن تُختزل في معادلة كيميائية داخل الدماغ، ولا في نمط تفكير أو سلوك واحد. الإنسان أكبر من ذلك بكثير؛ هو كيان متكامل من بيولوجيا ونفس ومجتمع. ومن هنا، فإن الجمع بين الدواء الذي يخفف والفكر الذي يغيّر هو السبيل إلى علاج أكثر إنسانية وفاعلية. إننا بحاجة إلى رؤية شمولية تجعل من الطب والعلاج السلوكي/المعرفي مجالين متكاملين، يحملان الفرد نحو التوازن والكرامة، ويفتحان أمامه شرفة على غدٍ أكثر إشراقًا.
مراجع:
DeRubeis, R. J., Hollon, S. D., Amsterdam, J. D., Shelton, R. C., Young, P. R., Salomon, R. M., O’Reardon, J. P., Lovett, M. L., Gladis, M. M., Brown, L. L., & Gallop, R. (2005). Cognitive therapy vs medications in the treatment of moderate to severe depression. Archives of general psychiatry, 62(4), 409–416. https://doi.org/10.1001/archpsyc.62.4.409
Hollon, S. D., DeRubeis, R. J., Shelton, R. C., Amsterdam, J. D., Salomon, R. M., O’Reardon, J. P., … & Gallop, R. (2005). Prevention of relapse following cognitive therapy vs. medications in depression. Archives of General Psychiatry, 62(4), 417–422.
الأخصائية أ.مينة القالي
أخصائي علم النفس الصحي الإكلينيكي
استشاري توحد واضطرابات نمائية والتدخل ب ABA بدار الاستشارات
محلل سلوك مؤهل QBA
محلل سلوك دولي IAB