نساء الصوف والنسج.. تنمية ذاتية وصون للتراث
تقرير : سارة توغر
الطريق إلى قريتهن بجبال الأطلس المتوسط لم تصلها شبكة الطرق السيارة الآمنة من أسوأ ما في الطرقات وهو الاكتظاظ. لكن لا اكتظاظ في طريق تبدو كسجادة خضراء. منعرجاتها الحادة بين جبال شاهقة تحد من سرعة السير حتى تصل إلى 40 كلم في الساعة. 200 كلم هي المسافة المسجلة في تطبيق الاتجاهات ويز من نقطة انطلاقنا مدينة الرباط عاصمة المغرب. شهرة المنطقة ماؤها المعدني الطبيعي الذي يحمل نفس اسم القرية: أولماس. اسم أمازيغي يعني الوسط، ولا يقل جبلها توغر الذي، يعني المرتفع بلغة الأمازيغ، شهرة عن ثروتها المائية. لكن خلف ثرواتها الطبيعية يوجد غنى آخرا، يخرج من بين أنامل نسائها، هؤلاء يغزلن الصوف لصناعة الأغطية والمفروشات كما يغازلنه حين تتفتق مواهبهن في الغناء. بل ويقبلنه باحترام واعتقاد أنه نعمة من النعم مثله مثل الخبز. إنه المادة الخام لمهمنة يتعلمنها وهن صغيرات، وترافقهن طيلة حياتهن كظل يوقع هويتهن المهنية: نساجات.
من صيفي من شهرغشت هذه السنة، والمكان مجمع الصناعة التقليدية بقرية تنتمي لجبال الأطلس المتوسط، صوت المِدْراةْ، التي كانت تضرب بها خيوط النسج، تسمع من الخارج كمقدمة موسيقية لموال من مواويل أعالي الجبال التي يسمونها أمازيغيا “تاماوايت”. الابتسامة جواز سفر بداويتهن التي لا يتخلين عنها، هكذا استقبلتني من بين خيوط منسجها الصوفي المرتب الرسومات كلوحة تشكيلية. عرفت منها أنها تنسج جلبابا رجاليا تحت طلب مدفوع ثمنه مسبقا، والثمن هو ألف وخمسمائة درهم مغربية. قانون السوق هو ما يتحكم في الأثمنة، والطلب جزء هام من نظام تجارة دخلنها من باب الحرفة التي ورثنها عن الجدات، وكانت جزء من تربية تلقن للبنات لنسج أغطية البيت وسجاداته وألبسة ساكنته من العائلة القريبة. ” لم نكن نبيع ما ننسجه في بداية العلاقة بالنسج، كانت كل منسوجاتنا موجهة للاحتياج العائلي أو لصناعة ما سنأخذه معنا كزوجات مستقبليات إلى بيت الزوجية. في بيتنا كنا ثمانية أخوات، جميعنا نحب النسج كواحد من مهارات مرتبطة بالأنثى، لذلك كانت أمي تنظم عملية الدخول إلى المنسج بيننا نحن الثمانية. منذ سبع سنوات تعلمت كيف أجلس أمام المنسج للنسج وقد كانت أمي معلمتنا بحكم أنها تتقن كل مراحل النسج:. تقرشل الصوف، تصبغه، تغزله وتنسجه بحرفية فنانة حتى ملئت البيت، واستمتع الضيوف بمفارش وأغطية من صوف خرافنا. تقول التي جزمت : هذه خدمتنا، وتقاعدنا وسوقنا والرياضة التي نمارسها دون حاجة للخروج”.
سانتلا
حديثها عن الحرفة التي ربت منها الأبناء لم يثنيها عن وصف يليق بالصوف: هي ستارت العورة، غطاتنا لباستنا زينات الخيم في الأعياد والأعراس هي أحسن من الذهب والفلوس.”
كل الرسومات المسماة بلغة النساجات: رْقيمْ يحفضنها بحب وإعجاب: تافنزارت، أخبا دي زم، موحى وبابا..، كما يحفظ أسماء المواد النباتية الطبيعية التي تصبغ الصوف وتبعده عن الصباغات الكيماوية: مريرت، الدباغ الكلبتوس، الخروب، بلعمان ، الحناء قشور الرمان والجوز .. نباتات يخرجن من أجل التقاطها إلى الغابات التزاما بتوجه وزارة الصناعة نحو التخلص من الكيماويات. هكذا، يجبن على سؤال حول صباغة المنسوجات وما إذا كانت الصباغة تصمد أمام الاستعمال اليومي والتظيف بكونها “ثوغم ن ربي” أي مصبوغة من الله، تعبير أمازيغي يحيل على نباتات غنية بها منطقة البلدة ذات الأصول الأمازيغية. وباختيار المنسوجات “البيو” في موادها الأولية والتلوينية تحررن من أسوأ ما في المادة الكيماوية وهو الإصابة بالحساسية وأمراض محسوبة على المزمنة.
فوق كل باب يوجد اسم التعاونية، كل الحرفيات المنضويات تحت لواء مجمع الصناعة التقليدية شكلن تعاونيات، إنها الطريقة التي أخرجتهن من الممارسة التقليدية في البيوت، ونظمت مهاراتهن في إطار تعاوني سهل للجهات المعنية بالحرف التعامل والتواصل معهن سواء من أجل الدعم أو إشراكهن في معارض داخلية كما الخارجية. على باب إحدى التعاونيات قرأنا ” قْنْ ارْزْمْ”، اسم غريب وصعب في النطق لأن جميع حركاته مسكنة. سألنا زهرة جنانات رئيسة التعاونية عن الإسم فعرفنا أن أصله من أحدى رسومات المنسج والتي تتكرر في المنسوجات، إذ تفتح وتغلق ثم تفتح الرسمة إلى أن يتم الانتهاء من القطعة، وقن بالأمازيغية هي افتح، ورزم هي اغلق. هكذا يبدو أن لا شيء يترك للاعتباطية، حتى الاسم يأخذ حضه من العناية ويحضى بمعنى ودلالة.
تعرف تعاونية قن رزم، إشعاعا يمتد إلى السوق الخارجية، بلوغ هذه الشهرة كان عن طريق بعض الوسطاء من أبناء البلدة المقيمين بدول الخارج أوربا. من قبل بعض وسطاء السوق الخارجية، تماما كما المشغولات اليدوية التي تخرج من محيط مجمع الصناعة التقليدية بوالماس. المجمع الذي حضي بالتقدير جراء إخراج نساء الحرف من الظل إلى نظام السوق حيث التنافس والإبداع جزء من قانون البقاء للأجود، وحيث الالتزام بمعايير البيو يقدم حرفة غير مضرة، كما أعاد لللأعشاب العطرية المشهورة في المنطقة كالأزير، الدباغ، أزاز، إضافة إلى الحرمل والحناء والملون زعفران البلدي وقشور الرمان، وكلها ملونات لا تتغير درجة اللون فيها بعد التنظيف.
اتنانانا
“تسكا” وكورونا صراع البقاء
خلف الأوائل أمثالا تعزز ثقتهم بالحرف، ومما قالوه بالعامية المغربية: الحرفة إلى ما غنات تستر” أي أن الحرفة اذا لم تغنيك تسترك. كان الأوائل يكررون المثل وهم أمام حرفهم بكثير من الإصرار على القناعة. صحيح أن منسوجاتهن لم تنتقل بأوضاعهن إلى الغنى، لكنها علمتهن فلسفة أن “الستر” أحسن من الغنى، وأنه يعلي من الإنسانية في قلوب تصبغت أصابيع صاحباتها ببرم الصوف وغزله وصبغه وحمله إلى الأسواق. في زمن كورونا كانت قد انقلبت أوضاعهن بسرعة قياسية. لا خروج لجمع أعشاب الصباغة ولا طرق مفتوحة ولا رواج تجاري، صارت قريتهن الساحرة في حكم الركود لكنهن لم يصبن بإحباط المكتئب. و يسقطن “تاسكا”، وهي آلة الضغط على خيوط النسج، من أيديهن بل واصلن الضرب بها كأنهن يفتحن صدر الحياة لتعود إلى طبيعتها، ولم يطوين المناول وهي أخشاب المنسج كما يفعلن عندما تكون جنازة ما. فقد التزمن ذات الجلوس للاتهاء ضد الوباء، بيقين أن طريق الصوف هو طريق الحياة لا الموت، حتى ولو صارت مواكب الموتى تربك الخطوات، وتهددهن في الطريق المؤدي إلى مجمع الصناعة التقليدية .
جمعة، امرأة تقدر عمرها ب الخمسين عاما، في وجهها ما يدل على أنها تجاوزت الستين، تجاعيد وشيب وشحوب خسروا علاقتهم بسن الخمسين. أنجب رحم جمعة سبعة أبناء، ومع كل حمل تدربت على أن تقاوم الفراغ حتى صار المنسج يلي الصلاة في ترتيب انشغالاتها اليومية: “روحي هي المنسج، ولا يمكن أن أبقى دونه، إلى ما نجيت”نسجت” بحال إلى مادرت والو” كما لم أفعل شيء”. تعبير جمعة عن إحساسها جاء بحروف متلعثمة ومفخمة لأن نطق الحروف العربية من قبل أمازيغية يجعلها تفخمها دون معرفة السبب. النسج شاق بحسب تجربة جمعة، وأن ألم الدراع والأصابع يرافقهن في رحلة بناء منسجهن إلى نهايته. هو الإصرار على الحفاظ على المهنة التي تستر أكثر مما تغني، تقول جمعة: “بعد الانتهاء من أشغال البيت، أدخل المنسج، وأفكر فيه فقط” جمعة هي واحدة من نساء يحصن تراثا كبيرا من غزو الصناعة الصينية، كما يحرسنه من “الماكينة” أو الآلة حتى ولو كانت سومة بيع الخبرة ضعيفة وتواجه منافسة غير الأصلي منها.
يعني النسج، أيضا، في ثقافتهن، ملء الفراغ، والهروب من تجمعات واجتماعات لا فائدة منها، فضلا عن كونه وسيلتهن لتدبير الحاجة لأغطية وأفرشة الأسرة، وتدبيرها غير متاح لكل النساء، حتى أن أغاني الأمازيغ تغنت بنساء أزطا أو المنسج، وصفتهن بالحادقات أي الجادات، والحداقة لا تكون إلا موصولة بمعرفة عوالم الجز والغزل وضبط المناول والمدراة والقرشال..، هكذا يقيمون الفرق بين امرأة وأخرى بترديد: ثاحيوطة مونودم شوف لالم أورينام، بمعنى: الحمقاء الغاطة في النوم، انظري إلى سيدتك خلفك، ماذا تعمل بالصوف.
في قديم الزمان، لم يكن في القرية نادي خاص ب “أزطا” أي المنسج وباقي أنواع المشغولات الثقيلة المسماة :الحنبل الغناسة، والمخدات الصوفية المرقمة برسومات لها دلالات أمازيغية. فكل النساء يتعلمنها تماما كما يتعلمن العجن وسقي الماء من أمهاتهن، عكس المشغولات اليدوية الأخرى كالتطريز الذي كن يتعلمنه في نادي نسوي. لذلك يعتبرن اليوم مجمع الصناعة التقليدية، حيث يشتغلن، بيتهن الثاني لممارسة هواية كانت ملزمة وصارت حرفة لها عاد وسوق وزبون.