الصحة المستدامة

من أخطاء التسويق العلاجي.. زيثروماكس نموذجاً

زيثروماكس أو (أزيثرومايسين) هو مضاد حيوي ضد الإصابات البكتيرية الخفيفة والمتوسطة، أطلقته شركة فايزر في منتصف التسعينيات، ويستخدم في علاج الإلتهابات البكتيرية في الحلق والجهاز التنفسي والجلد والأسنان وغيرها، وكان واحداً من أكبر خمسة أدوية لشركة فايزر في تلك الفترة، وأصبح في فترة قصيرة نسبيا المضاد الحيوي الأول على مستوى العالم من حيث المبيعات.

لكن في الحقيقة هذا النجاح الكبير لم يحدث بمجرد إطلاق الدواء، بل مع نزوله في سوق الدواء شهد إخفاقاً كبيراً وفشلاً غير متوقع في تحقيق الأهداف التسويقية والبيعية له.

فلماذا يا ترى؟!

زيثروماكس مضاد حيوي له صفات مختلفة وجديدة عما كان يسبقه من المضادات الحيوية وقت إطلاقه، فبعد تناول الدواء عن طريق الفم، يتجه مع الدم إلى مكان وجود البكتيريا المسببة للمرض ويتركز في أنسجته ويبدأ في تحطيم هذه البكتيريا، وعندما تصل خلايا الدم البيضاء إلى مكان الإصابة لتحارب البكتيريا، يدخل زيثروماكس فيها أيضا، وهكذا تصبح البكتيريا محاطة بالمضاد الحيوي في الأنسجة المصابة به وفي داخل خلايات الدم البيضاء أيضا.

إلى جانب هذا، فمع جرعة واحدة يوميا لمدة ثلاثة أيام فقط، يتركز زيثروماكس في الأنسجة المصابة، ويبقى فيها بتركيز عالٍ لمدة عشرة أيام متواصلة.

كانت هذه الطريقة في العمل مبهرة حتى بالنسبة للعاملين في فايزر أنفسهم، وكنت أنا شخصياً واحداً منهم، فصُممت المواد الدعائية (Promotional Material) الموجهة للأطباء بحيث تشرح “أولا” وباستفاضة هذه الطريقة المميزة في عمل الدواء، وبالذات موضوع الجرعة البسيطة الواحدة يوميا لمدة ثلاثة أيام فقط، والتي تركز الدواء لمدة 10 أيام في الأنسجة المصابة، وكان هذا الشرح يستغرق معظم وقت الزيارة التي يقوم بها مندوب الدعاية للطبيب، ثم يأتي في النهاية موجز بسيط وسريع عن مدي كفاءة وفاعلية وأمان الدواء.

كنت وقتهاً مديراً للتسويق في شركة فايزر لمنطقة الخليج، وتوقعنا جميعًا في فايزر أن يحقق زيثروماكس نجاحا هائلا في سوق المنطقة، بالذات في السعودية لأنها سوق الدواء الأكبر في منطقة الشرق الأوسط كلها، ولكن هذا لم يحدث على الإطلاق، وهو نفس ما حدث في كل أسواق الدواء في العالم!

وجدنا، ولدهشتنا، أن الأطباء لا يصفون الدواء لمرضاهم المؤهلين لاستخدام الدواء، وعندما كنا نسألهم هل وصفوا الدواء فعلا لمرضاهم، يقولون نعم وصفناه، لكنه لم يأتِ بالنتيجة المرجوة ويحقق الشفاء للمرضى، ولكننا في الحقيقة كنا نعرف أن الأطباء لم يصفوا الدواء لمرضاهم من الأصل. 

قمنا بعمل بحث تسويقي (Market Research) سريع ومصغر، لنعرف سبب عزوف الأطباء عن وصف الدواء للمرضى، وكانت النتيجة مدهشة لنا.

اكتشفنا أن معظم الأطباء لم يقتنعوا بفاعلية وكفاءة الدواء لمجرد طريقته في العمل ولمجرد جرعته البسيطة التي تتركز في الأنسجة المصابة بالمرض، وكانت هذه هي غلطتنا نحن، لأننا ركزنا كثيرا جدا في موادنا الدعائية على طريقة عمل زيثروماكس بهذا الطريقة وعلى مواصفاته المتميزة والمختلفة عن بقية المضادات الحيوية، وأهملنا إلى حد كبير التكلم عن كفاءة وفاعلية وأمان الدواء وأجلناها إلى نهاية كلامنا على الدواء، وقدمناها بصورة سريعة جدا ومختصرة للغاية.

أي أننا باختصار ركزنا على صفات وخصائص الدواء (Features) والتي لا يراها ولا يلمسها الطبيب، وأهملنا التركيز على الفوائد والمنافع (Benefits) التي يطلبها ويريدها الطبيب في الدواء، كما يطلبها أي عميل لأي منتج.

الطبيب يصف أي دواء بناءً أولا على فاعليته وكفائته في القضاء على المرض، وتأتي سلامة وأمان الدواء بعد هذا أو ربما معه، ثم تأتي بعد هذين العاملين أي عوامل أخرى، مثل الجرعة البسيطة وسرعة المفعول وامتداده وطريقة العمل وتركيزه في الجسم وطريقة إخراجه من الجسم وسعره وتكلفته النهائية…الخ الخ.

حينما اكتشفنا هذا، قمنا بتغيير المواد الدعائية الموجهة للأطباء على مستوى العالم كله، فبدأنا فيها أولا بالتركيز على فاعلية وكفاءة زيثروماكس ومقارنته بالمضادات الحيوية الأخرى من حيث الفاعلية والأمان، ثم نشرح بعد هذا، وباختصار، لماذا يتمتع الدواء بهذا الكفاءة والفاعلية، والتي يضمنهما طريقة عمله وتركيزه في الإنسجة والجرعة البسيطة القصيرة…الخ الخ.

بعد هذا التغيير الاستراتيجي في التعامل مع الدواء، اقتنع الأطباء فعلا به، وبدأوا في وصفه لمن يستحقه من مرضاهم، وبسرعة ارتفعت مبيعات الدواء، ليصبج المضاد الحيوي الأول على مستوى العالم ولفترة طويلة.

العبرة من القصة:

– قد يحدث أن يُعجب أو ينبهر الصانع أو المسوق أو البائع بالمنتج، ويقدمه للعميل أو المستهلك كما يراه هو، وليس كما يريده العميل أو كما يطلبه أو يتصوره.

– يجب التركيز دائما على فوائد ومنافع المنتج (Benefits) وليس على صفاته وخصائصه (Features)

– العبرة في الدواء عامة، هي الفاعلية والكفاءة أولا، ثم تأتي بقية العوامل الأخرى.

– لو كنت منتجا أو مسوقا أو بائعا، يجب عليك أولا أن تضع نفسك مكان العميل، وتفكر كما لو كنت عميلا وليس منتجا أو مسوقا أو بائعا.

– أخيرا وليس آخرا؛ وكما يقال دائما: العميل (الزبون) دائما على حق، هذه قاعدة صحيحة تماما وأساسية جدا وبسيطة للغاية، ومع هذا ينساها أو يغفلها كثير من المنتجين والمسوقين والبائعين.

د. هانى سليمان

مدير التسويق بفايزر.. سابقا

زر الذهاب إلى الأعلى