مغامرة في مملكة الغابة!
هل فكرت يوماً فى القيام برحلة إلى غابة؟!
قد يبدو السؤال غريباً، لكن رحلة من هذا النوع ليست مستحيلة، فمازال هناك على سطح الأرض غابات كثيرة، وإن كانت قد فقدت “عذريتها” فى الغالب بسبب النشاط البشرى.
والغابات أنواع، فهناك غابات سنديان وزان وصنوبر وتنوب وغيرها، تحتوي على أشجار عملاقة معمرة عمرها مئات السنين، بعضها دائم الإخضرار، وبعضها الآخر يفقد أوراقه فى الخريف، ولكن الموسم المفضل للتجول فى الغابة هو الربيع بطبيعة الحال، عندما يكون البساط الأخضر فى عنفوانه كأبدع ما خلق الله .
جنود الغابة
ولنبدأ الرحلة، إن هى إلا بضع خطوات داخل الغابة وتحاط باللون الأخضر، لتسير على بساط من الأعشاب، وفوق رأسك سقف من جذوع الأشجار مختلفة الأشكال، حتى الآن لن تسمع أصوات حفيف الأشجار وزقزقة بعض العصافير الجميلة.
وبعد التوغل قليلاً داخل الغابة سوف تلحظ حركات، وأصواتاً ضعيفة فى فجوات ترابية صغيرة، وإذا تقدمت ببطء سوف تتأكد أن بعض الحيوانات الصغيرة تقفز هنا وهناك وتهرب مسرعة عندما تسمع دبيب قدميك، ولو أرهفت السمع وركزت البصر سوف تكتشف أن تحت أقدامك عالماً مدهشاً من المخلوقات المرئية وغير المرئية.
أما إذا تجرأت وحفرت تحت قدميك ونظرت بعدسة مكبرة، فسوف تندهش من ملايين الكائنات الصغيرة التى لا ترى أغلبها بالعين المجردة هذه الكائنات فى أغلبها بكتيريا تتغذى على الأوراق والحيوانات الميتة، إنها أحياء تعيش على الموتى!
ولو زادت جرأتك بعض الشئ وحفرت فى خشب الأشجار فسوف تفاجأ بـ “جنود الأرض” مختبئة داخل الجذوع القديمة إنها عمياء منذ الولادة، تتغذى على الخشب وتستقر فى جذوع الأشجار، وعلى غرار النحل والنمل تُشكل جماعات منظمة جداً، تهاجم العداء عبر بصق نوع من السم.
وإذا كنت فى غابة مدارية سوف تندهش من هذه الجماعات التى تسمى “مستعمرات الأرض”، والتى تبنى من التراب حصوناً بكل معنى الكلمة، يصل ارتفاعها إلى أعلى من قامة الإنسان.
وقبل أن تنصرف بعيداً عن جذوع الأشجار، لاحظ وكر النمل أو “المنامل” التى تشكل مدينة جوفية، تبنى جدرانها من التراب المدعم بالملاط واللعاب، ومغطاة بالقش والعيدان والأوراق، وتكاد فى دقتها وإعجازها أن تكون –على صغرها- إحدى آيات الكون الكبرى.
لابد أن تأخذ حذرك هنا من “النمل الطيار”، الذي يغادر أوكاره بالآلاف خاصة فى الصيف وبداية الخريف ليتزاوج في الجو، ثم يعود إلى الأرض، بعد أن تموت الذكور، وتصبح الإناث ملكات تتخلص من أجنحتها فى تنويه عن أنها عروس جاملة للبيض، وبالفعل تبدأ البحث عن مكان تضع فيه بيضها وهكذا تؤسس “منملة” جديدة.
بعد خطوات من “المنامل” ربما تشم رائحة كريهة فلا تنزعج، ففى الطبيعة هنا آلاف الأنواع من الحشرات تصدر عنها رائحة كريهة، وما هذه الرائحة إلا وسيلة دفاع لتنفر أعدائها وتجعلهم يهربون بعيداً عنها.
النمل الطيّار
عليك أن تحترس، وأنت تسرع الخطى هرباً من هذه الرائحة، ربما تصطدم بأعشاش العناكب المنتشرة على أرض الغابة وبالأخص حول الأحجار، بعضها تنسج عشاً، بل تحفر بيتاً صغيراً فى التراب وتغطى الداخل بخيوطها، وتكسو المدخل بالطحالب، وهكذا يمكنها من دون أن تغادر بيتها أن تصطاد الفرائس التى تقع فى هذا الفخ عندما تمر فوقه.
واصل رحلتك وسوف تأخذ -إرادياً أو لا إرادياً- ورقه شجر وتحكها بين يديك، فقد تجد أم أربع وأربعين، وأسمها العلمى هو “الحريش” والواقع أن لها أثنين وأربعين رجلاً وأحذر جيداً، فإن لسعتها مؤلمة للغاية، كما تحذرها الديدان لأن أم أربع وأربعين لا تكف عن ملاحقتها لتتغذى عليها.
الإمبراطور الوحيد!
إذا دخلت إلى الممرات الكبرى، وتوغلت فى بعض المسالك، ستلاحظ جيداً، آثار ثعبان أو ثعلب مر قبل قليل، فاحترس وحتى يذهب الخوف عنك أنظر عند المعابر، فهذه ظبية جميلة تعبر الطريق برشاقة ورقة.
وإذا لاحظت هذه المنطقة الشاسعة التى تفتقر إلى الحركة والحياة، فربما تكون منطقة الثعلب، وهى قسم معين من الغابة يعيش فيها الثعلب وحيداً مثل الإمبراطور، ويحدد منطقته عبر ترك رائحته فى أسفل الأشجار والأدغال، لكى يمنع الثعالب الأخرى من المجئ إليها، ففيها يصطاد، يفاجئ الطيور فى أعشاشها، والأرانب وفئران الغابة فى جحورها.
وعند خروجك من منطقة الثعلب، على بعد قليل ستشاهد الذئاب تمشى فى صفوف منتظمة مثل الجنود، هكذا حين تنتقل جماعة الذئاب فى منطقتها، تصطف بشكل منتظم بحيث يلامس ذنب الأول رأس الثانى، وذنب الثانى رأس الثالث، وهكذا دواليك، وهى تبدو كما لو كانت فرقة عسكرية مستعدة للقتال على الدوام، حتى تخيف كل من يحاول المساس بها أو تسول له نفسه مهاجمتها وهى عصبة!
بيت الدب
اترك الذئاب تواصل رحلتها دون أن تزعجها، حتى لا تزعجك، واتجه إلى “وِجارُ الدب” أو بيت الدب، وانتبه أنه حيوان ذو إطلالة مُهيبة خاصة حين ينتصب على قائمتيه الخلفيتين، ويجب أن يكون بيته أو و”جاره” كبير، ويكون وسط الصخور أو فى مغاره أو كهف أو فى جذع شجرة إقتلعها الريح، لن ينتبه إليك كثيراً لأنه لا يعنيه إلا “الأكل” فهو شره للغاية، ويأكل كل شئ، وهذا سر سمنته الفائقة، مما يساعده على أن يختبئ طوال الشتاء ويعيش على إحتياطى الشحم فى جسمه الضخم.
وبالطبع لن نشجعك أن تقترب من بيت الأسد، إلا إذا كنت أنت نفسك “أسداً” إذهب إذن وحدك إلى عرين ملك الغابة وتحمل عاقبة ما تفعله دون أن تحملنا النتائج!
وأرهن السمع قليلاً.. ربما تستمع الآن إلى صيحة طويلة وعميقة أعلى من خوار الثور، وزئير الأسد.. لا تقلق إنها “الأيائل” تنادى الظباء لتأسيس عائلة، وصيحتها هذه تسمى “نزيباً”.. وعند الزواج تتصارع الذكور فى البداية للحصول على الإناث، تجرى المعارك فى فسحة مضيئة، تتجابه فيها الأيائل نطئ بالقرون الخشبية ورفساً بالإطلاق والفائز يكون هو “العريس” الذى سيكون والد “الرث” التى ستولد بعد تسعة شهور.
وهذا الرشا الجميل حين يولد يكون فى خطر ومطمع لكثير من الحيوانات التى تتربص به لتفترسه، لكن الله سبحانه وتعالى قد منحه بقعاً بيضاء، كتلك التى ترسمها الشمس حين تتغلغل عبر الأوراق كنوع من التمويه، كما أنه عديم الرائحة فلا ينتبه أحد من الإعداء الطبيعيين لوجوده، ويطل الرشا محمياً طوال الأشهر الأولى من حياته، حتى يتعلم القفز ويعرف كيف ينجو من المخاطر.
وأول ما يفعله ذلك الصغير هو اللعب مع أبناء العم “اليحمورة” و”اليحمور” وهما أصغر فى الحجم من الأغنام وأبنائهم، ولكنهما بطبيعة الحال ينتميان إلى الفصيلة ذاتها فصيلة الحيوانات ذات القرون المتشعبة اليحمورات، والظباء مع صغارهن جماعات صغيرة تقودها وتحرسها دائماً أنثى كبيرة السن.
وتفاءل أكثر إذا شاهدت القنفد، لا تخف منه، فربما يحميك من الأفعى، فهو الوحيد الذي لا يتأثر بلدغتها القاتلة. والقنفد يبدأ نشاطه عندما يحل المساء، فيخرج وينظر فى كل اتجاه بعينيه الماكرتين الصغيرين، ويدب ببطء وهو يشم الأرض، يبحث عن الحلزونات، والحشرات والديدان ويلتهمها، بشراهة كأنه يأكل فى آخر زاده!
أوركسترا الطيور المغرّدة
والآن تبدأ الشمس فى الرحيل، لهذا سوف نخرج من مناطق الحيوانات والزواحف، لنلاحظ عالم آمناً وأكثر جمالاً وجاذبية، هو عالم “ما فوق الأشجار”. سوف تبدأ العصافير الآن فى “الزقزقة”، صوت الذكور أجمل من صوت الإناث، وهى التى تزقزق فى الغالب، ولكل زقزقة معنى محدداً، فى الربيع ينادى العصفور رفيقه بأعلى صوته، ويختار مركز العش وهو يزقزق، وفيما يبنيه يرفع صوته من جديد ليعيد العصافير الأخرى، وحين توضع البيض، يرفع صوته أكثر فأكثر لإبعاد الخطر، وإذا حل الصمت التام فهذا يعنى أنه موعد إطعام الفراخ، وهو عمل يتطلب جهداً كبيراً ولا وقت معه للغناء.
وبعد الإنتهاء من إطعام الصغار، تبدأ العصافير، ومعها يبدأ “نقار الخشب” فى الدق على الأشجار ليصنع أوركسترا جميلة يقوم فيها بدور عازف الإيقاع.. ونقار الخشب ينقر الجذوع لإكتشاف طعامه بداخلها، فإذا كانت الرنة “فارغة” فهذا يعنى أنه قد يجد فى هذا المكان يرقات أو حشرات، عندئذ يضرب بقوة أكبر لكى يحدث ثقباً صغيراً، ثم يدخل فيه لسانه الطويل اللاصق ليلتقط فرائسه.
أرفع عينك إلى أعلى الغصون لتشاهد “الباز” بجوار عشه الكبير جداً، لدرجة أنك يمكنك أن تتمدد فيه، قمة الأشجار بالنسبة هذا الطائر الصياد هى مركز مراقبة مثالى، يرى كل ما يجرى تحته، حين يكتشف يمامة طائرة، يترك غصنه ويندفع لقنص فريسته من دون أن تراه قادماً، وحين يصير وراءها فى اللحظة الأخيرة يمد براثنه إلى الأمام، ويقبض عليها فوراً بلا فكاك!