قراءة في كتاب ستون عاما بين المتعبين -رحلتي من الألم إلى علاج آلام الآخرين
البروفيسور محمد الطريقي: حين يتحول الألم إلى نبض أمل في شرايين المجتمع

في عصرٍ تتصاعد فيه وتيرة الجدل العقيم، وتتناثر فيه الكلمات كرماد في مهب الريح، وفي ظل انتشار السير الشخصية التي تفتقر للعمق الإنساني، تبرز لنا مسيرة البروفيسور محمد بن حمود الطريقي كواحة خضراء في صحراء قاحلة، وكفجر جديد يطل من خلف سحب الشدائد والمحن. هذه ليست حكاية إنجاز فردي عادي، وإنما هي ملحمة بشرية استثنائية، نُسجت خيوطها من معاناة شخصية لتُشكّل نسيج أمل يعمّ الجماعة بأسرها.
إن سيرة البروفيسور محمد بن حمود الطريقي تتجاوز كونها مجرد تسجيل للمنجزات العلمية والأكاديمية، لتصبح ملحمة إنسانية حقيقية شكّلت من الألم دروساً للعطاء، ومن التحدي سلماً للرقي وللارتقاء. إنها قصة إنسان آمن إيمانا راسخا بأن جوهر الوجود الحقيقي لا يُقاس بما نحرزه من مكاسب شخصية، بل بما نبذره من بذور الأمل في قلوب الناس من حولنا..
من قلب المحنة: الإرهاصات الأولى لفكر التحدي والصمود
نشأ محمد الطريقي في رحم المعاناة، فاستمدّ منها معارف لم تحتوها المجلدات ولا الدراسات الأكاديمية. لم تستطع تلك المحطات الصعبة أن تنال من عزيمته وإرادته، بل صقلتها في محراب الأمل والتطلع، لتصنع رجلاً يؤمن بأن الجراح قد تكون أحياناً بمثابة الندى الذي يسقي أعماق الروح، فينبثق منها عطاء متدفق لا ينضب معينه.
في محاريب المعرفة: العلم رسالة ومسؤولية
لم يرض محمد الطريقي بأن يحبس نفسه في أبراج المعرفة العاجية المنعزلة، بل نزل بمعرفته إلى ساحة الواقع المعيش، حاملاً مشعل العلم لإنارة دروب الآخرين. فغدت إنجازاته دليلاً يجمع بين عراقة الفكر وحداثة الرؤية، وتؤسس لخطاب إنساني يوائم بين ثوابت القيم والمبادئ وتطور متطلبات العصر.
تمكين المُهمَّشين: عندما يصبح الصمت صوتاً
اتخذ محمد الطريقي من قضايا ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة محوراً أساسياً في مسيرته، إيمانا منه بأنهم كنوز ثمينة مخفية تنتظر من يكتشف قيمتها الحقيقية. لم يقبل بأن يظلوا على هامش النسيج المجتمعي، بل سعى جاهداً لتحويلهم إلى نصوصٍ مضيئة في مسيرة البناء والتنمية. كان يعالجهم لا بعلاج الشفقة، بل ببلسم التمكين الذي يحول الضعف الى قوة، والتهميش إلى مشاركة فاعلة.
صوتٌ يعلو فوق الضوضاء: في مضارب الفكر والإعلام
من يتأمل سيرة محمد الطريقي سيدرك أنه لم ينزو في محراب التخصص الضيق، بل تسلّح بقلمه ونظره ليخوض غمار معارك التنوير في ميادين الإعلام والثقافة العامة. كانت عباراته كاللحن العذب يشق طريقه عبر الضجيج والصخب، ورؤاه كالكواكب المضيئة ترشد التائهين في عتمة الحيرة. جمع في أسلوبه بين حكمة العارف ودفء الوالد الحنون، فلم يتوجه بكلامه إلى العقول وحدها، بل خاطب القلوب أولاً وقبل كل شيء. وهذا ما تجسّد بوضوح في مؤلفاته وإنتاجه الفكري المتنوع.
ملامح رجل: حين يتوافق المنطوق والمسلك
في شخصية محمد الطريقي تتجلى صفات نادرة التكرار: تواضع العالِم الحقيقي، عزيمة المصلح الصادق، سعة أفق المفكر، وحساسية الإنسان المرهف. كان أشبه بالشجرة المباركة، كلما ازداد عطاؤها وثمارها انحنت أغصانها تواضعاً للتراب الذي يغذّيها ويمنحها القوة.
عبر السيرة: دروس في بناء المعنى الحقيقي
إن رحلة محمد الطريقي تعلّمنا أن أعظم الانتصارات هي تلك التي تُحقق على أطلال المكابدة والمعاناة. وأن قيمة المعرفة الحقيقية والعلم لا تكمن في الشهادات والألقاب، بل في قدرتها على إحداث تغيير جذري في واقع الناس المعيش. وأن القيادة الأصيلة تتمثل في خدمة من لا يملكون وسيلة لمكافأتك أو ردّ الجميل.
في الختام، من الفردية إلى الرمزية
يستطيع القارئ أن يكتشف بين صفحات كتاب ‘ستون عاماً بين المتعبين’ أن محمد الطريقي تجاوز كونه مجرد اسم في سجلات الأكاديميين والمفكرين، ليصبح رمزاً للإنسان الذي يحوّل آلامه إلى رسالة سامية، ومحنته إلى منحة للآخرين. لقد تمكّن من أن يشاركنا تجربته مسطورة ليس بمداد على أوراق، بل بأنامل الأمل على قلب الوطن النابض. وحوّل هذه التجربة إلى تراث جمعي يُثري اللحظة الراهنة ويساهم في صناعة المستقبل، ويسطّر بأحرف مضيئة فصلاً جديداً في سفر الوطن المشرق.
تجربة محمد الطريقي تذكرنا بأن النجاح ليس لقبًا أو منصبًا، بل أثر يتركه الإنسان في قلوب وعقول من حوله. والقيادة الحقيقية تبدأ من الذات. ستون عامًا من العطاء جعلت منه شاهدًا حيًا على أن الإرادة قادرة على تحويل الألم إلى رسالة، والرسالة إلى إرث خالد.
الكتاب ليس مجرد مذكرات، بل رحلة وعي، تمزج بين التجربة الشخصية والرؤية المجتمعية، وتقدم للقارئ دروسًا في الصبر، والإرادة، والعمل من أجل الآخرين. مما يجعل منه إضافة مهمة في أدب السيرة الذاتية العربي.