سورة قرآنية تؤسس لحقوق المعاق في الإسلام
المتأمل في القرآن الكريم، يجد مثلاً إيجابيًا للاهتمام والرعاية بالمعاقين، وهذا ما يتجلَّى تحديدًا في عتاب الله سبحانه وتعالى لنبيه محمدـ صلى الله عليه وسلم ـ في قصة “عبدالله بن أم مكتوم”، الذي كان ضريرا، حيث حضر إلى رسول الله، عليه الصلاة والسلام؛ ليجلس معه كما تعوَّد، فأعرض عنه الرسول؛ لعدم فراغه، وانشغاله بدعوة كفار مكة وسادتها، ومحاولة جذبهم إلى توحيد الله، فأدار وجهه عنه، والتفت إليهم، وبالطبع لم ير ابن أم مكتوم ما فعله الرسولـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه أعمى، فجاء عتاب الله لنبيه: “عبس وتولى، أن جاءه الأعمى”؛ حيث أوضح الله أن المؤمن الكفيف أطيب عند الله من هؤلاء الكافرين، فكان النبي كلما رآه رحب به، وقال: (أهلا بمن عاتبني فيه ربي)”.
والتاريخ الإسلامي مليء بقصص كثيرين ممن لم تمنعهم إعاقتهم البدنية من أن يبرزوا، ويبدعوا في مجالات العلوم والآداب والفنون، مثل الأحنف بن قيس، ومبشر بن المعتمد، وأبو حامد المرزوي، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو العلاء المعري، وموسى بن نصير، والمغيرة بن شعبة، ومحمد بن سيرين وغيرهم من الأدباء والعلماء والقادة والشعراء.
كما أن التاريخ الإسلامي مليء بكثير من المعالم الدالة على رعاية أصحاب الاحتياجات الخاصة، وذلك على عكس ما كان يحدث في كثير من المجتمعات الأخرى في الوقت نفسه، مثل الدولة الرومانية التي عمدت إلى التخلص من المعاقين، كما أن “أرسطو” كان يرى أن أصحاب الإعاقة السمعية لا يمكن تعليمهم، وكذلك “أفلاطون” الذي كان يرى ضرورة إخراج المعاقين من مدينته الفاضلة؛ لأنهم لا يؤدون المطلوب منهم لنجاح هذه المدينة.
وفي السيرة النبوية نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولَّى إمارة المدينة لعبد الله ابن أم مكتوم أكثر من عشر مرات، وبعث معاذ بن جبل عاملًا على اليمن وأميرًا لها وكان شديدَ العَرَج، واشترك عمرو بن الجموح في القتال في غزوة أُحُد، وكان من أوائل الشهداء فيها، وتسابق الناس إلى التعلم من عبدالله بن عباس رضي الله عنهما وكان قد كُفَّ بصرُه في آخر حياته، وكان ينشد قائلًا:
إنْ يأخُذِ اللهُ مِن عَيْنَيَّ نورَهما ففي لساني وسَمْعي منهما نورُ قَلْبي ذكيٌّ وعَقْلي غيرُ ذي عِوَج وفي فمي صارمٌ كالسيفِ مأثورُ |
الدمج الاجتماعي
ضربت الحضارة الإسلامية أروع الأمثلة في كيفية دمج المعاق داخل المجتمع، باعتباره عنصرًا أساسيًا في المجتمع المسلم، ويكفي أن الخليفة “عمر بن عبد العزيز” قام بإحصاء عدد المعاقين في أقطار الدولة الإسلامية؛ لمعرفة كيفية الإفادة منهم، ورعايتهم، وبالتالي إدماجهم داخل المجتمع، كما أن الإمام “أبو حنيفة” وضع تشريعًا يقضي بأن بيت مال المسلمين مسؤول عن النفقة على المعاقين.
إن إدماج المعاق في المجتمع، وعدم الاستهانة بإعاقته أمرنا بهما الإسلام، فالمجتمع الذي يزدري المعاقين يكون مصدر شقاءٍ وألمٍ لهم، ربما يفوق ألم الإعاقة نفسها، كما أن هؤلاء الأصحاء الذين ينعمون بالصحة، وينظرون للمعاقين نظرة سخرية، عليهم أن يدركوا أن هذه النعمة من الله لقوله تعالى: «وما بكم من نعمة فمن الله»، وعليهم أن يدركوا جيدًا أن الله قادر على سلبها منهم.
الحقوق المشروعة للمعاقين
اهتمَّ الإسلام بحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، فجعلهم مع غيرهم من الأسوياء متساوين في حقوق العيش، والحرية، والتعليم، وإبرام العقود، والتملُّك، وإبداء الآراء السياسية؛ كالانتخاب وغيرها، وتولِّي الوظائف التي تصل إلى الإمارة، كما أعفاهم من مهمة القتال والدفاع عن الأوطان لهذه العلة؛ قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 91]، وقال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح: 17]، كما أمَر الإسلام بزيارة ذوي الاحتياجات الخاصة، وعدمِ تركهم وعزلهم، وهذا مِن باب الرحمة بهم؛ فقد كان النَّبي صلَّى الله عليه وسلم يُكثِر من زيارته لهم؛ روى البيهقي والبزار والمنذري من حديث جبير بن مطعم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ((اذهبوا بنا إلى بني واقف نزور البصير)) (وكان هذا رجلًا أعمى).
وفى الأخير: إن الرضا بقضاء الله وقدره علامة على صدق الإيمان وسبب قوي لتحصيل الراحة والطمأنينة في الحياة، فيعيش مَن ابتلاه الله بالعمى أو الصمم والبكم أو شيء من الإعاقة العقلية أو العضلية أو العصبية بنفسية عجيبة تجعل الأصحّاء المعافين يتّخذونهم قدوة لهم في الصبر والتسليم لأقدار الله تعالى، وقد يكون المُبتلى أعظم قدراً عند الله أو أكبر فضلاً على الناس، علماً وجهاداً وتقوى وعفّة وأدباً.