حين يُساء فهم العلم: مؤسسة التوحد ترد على الجدل حول اللقاحات وتايلينول”
أمهات ذوي التوحد بين الخوف والمعلومة: من يملك الحقيقة؟"

في ظل تزايد التداخل بين الخطاب السياسي والمعلومات الصحية، أثارت التصريحات الأخيرة لإدارة الرئيس الأمريكي حول احتمال وجود صلة بين استخدام تايلينول أثناء الحمل وظهور اضطراب طيف التوحد نقاشًا واسعًا في الأوساط العلمية والطبية. وجاءت استجابة مؤسسة علوم التوحد، ممثلة بالدكتورة أليشيا هالادي، لتوضح الموقف العلمي، مشددة على أهمية التفريق بين الفرضيات التي تفتقر إلى أدلة قوية والنتائج المبنية على أبحاث علمية دقيقة. يركز هذا المقال على التطرق لأبرز النقاط التي تناولها هذا الرد، مع ذكر أبعاده العلمية والإعلامية، بالإضافة إلى استعراض تأثير مثل هذه التصريحات على الأمهات والمهنيين في مجال الصحة النفسية، خاصة في المجتمعات التي تفتقر إلى مصادر موثوقة للمعلومات.
أثارت تصريحات صادرة عن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي ألمحت إلى وجود علاقة محتملة بين اللقاحات والتوحد، وتناول لأم دواء تايلينول أثناء الحمل، جدلاً واسعاً في الأوساط العلمية والطبية. وفي قلب هذا الجدل، برز رد فعل حاسم من “مؤسسة العلوم للتوحد ( Autism Science Foundation) التي سارعت إلى دحض هذه الادعاءات، مؤكدةً على الإجماع العلمي الراسخ وعلى الأخطار المترتبة على نشر معلومات مضللة.
رد العلم من خلال موقف مؤسسة العلوم للتوحد:
وقد صرّحت أليشيا هالادي بأن أي علاقة بين التالينول (Tylenol) والتوحد تستند إلى علم محدود، متضارب، وغير متسق، ومن المبكر جدًا اعتبارها حقيقة مؤكدة. وأضافت أن هذه الادعاءات قد تُضلل العائلات وتُقوّض الثقة في الإرشادات الطبية المبنية على الأدلة، خصوصًا أن عدم علاج الحمى أثناء الحمل قد يُشكّل خطرًا أكبر على صحة الأم والجنين. كما ركزت على أن الأمهات الحوامل من حقِّهن الحصول على معلومات واضحة ودقيقة، لا استنتاجات مبتورة قد تُربك خياراتهن العلاجية. وشددت على أهمية عدم نشر الذعر أو المعلومات غير المؤكدة علميًا بين الأمهات الحوامل. كما نبّهت إلى أن الربط غير الدقيق بين الأدوية والتوحّد يمكن أن يؤدي إلى وصم الأمهات الحوامل أو شعورهن بالذنب دون مبرر علمي.
وبخصوص موضوع اللقاحات، في ردها الحاسم، أكدت “مؤسسة العلوم للتوحد”، وهي منظمة رائدة في مجال البحوث العلمية حول التوحد، أن الحقيقة العلمية واضحة ولا لبس فيها. وصرحت المتحدثة باسم المؤسسة بأن “الإجماع العلمي الساحق يثبت عدم وجود أي علاقة سببية بين اللقاحات والتوحد”.
واستشهدت المؤسسة بالعشرات من الدراسات واسعة النطاق التي أجريت على ملايين الأطفال حول العالم، ولم تجد أي دليل يربط بين التطعيم وزيادة معدلات الإصابة بالتوحد. وأن أصل هذا الموضوع يعود إلى دراسة واحدة أجراها أندرو ويكفيلد عام 1998، والتي ثبت لاحقاً أنها احتوت على بيانات ملفقة وتم سحبها من المجلة العلمية التي نشرتها، وسُحب منه ترخيص مزاولة المهنة الطبية.
وعبرت عن رفض فكرة تفكيك اللقاحات أو تأجيلها، حيث اقترحت الإدارة فصل لقاح MMR إلى جرعات منفصلة وتأجيل مواعيد التطعيم، وهو ما اعتبرته هالادي مخالفًا للممارسات الصحية المعتمدة، وقد يُعرّض الأطفال لخطر الأمراض المعدية.
بين الخوف والمعلومة: الأمهات في مرمى التصريحات غير الدقيقة
حذرت المؤسسة من تهديد الصحة العامة بمثل هذه التصريحات. لأن تكرار مثل هذه الادعاءات من شخصيات رسمية قد يؤدي إلى ما يلي:
- زرع الخوف بين الآباء: مما يدفعهم إلى التردد أو الامتناع عن تطعيم أطفالهم.
- تراجع معدلات التطعيم: وهذا يفتح الباب أمام عودة أمراض خطيرة ويمكن الوقاية منها، مثل الحصبة وشلل الأطفال والنكاف، والتي كانت قد تم السيطرة عليها إلى حد كبير بفضل اللقاحات.
ودعت هالاري إلى تحويل التركيز نحو القضايا الحقيقية. فبدلاً من الخوض في جدل عقيم، يجب على الحكومات والمجتمع توجيه الموارد نحو البحث عن الأسباب البيولوجية والوراثية والبيئية الحقيقية وراء اضطراب طيف التوحد، تطوير تدخلات وعلاجات فعالة ومبنية على الأدلة. و تحسين جودة الحياة وتوفير الدعم للأشخاص الذين يعيشون مع التوحد وعائلاتهم.
بين الخطاب العام والبحث العلمي: أين تقف الحقيقة؟
يعتبر موقف “مؤسسة العلوم للتوحد” صوت العلم في وجه محاولات تسييس القضايا الصحية. وهذا يؤكد على أن الثقة في المؤسسات العلمية الموثوقة والالتزام بالحقائق المدعومة بالأدلة ليسا خياراً، بل هما ضرورة حتمية لحماية صحة أجيالنا والمجتمع ككل. في عصر تتدفق فيه المعلومات بسرعة، يبقى العلم هو المرشد الأكثر موثوقية لاتخاذ القرارات الصحيحة.
إن الجدل الذي أثارته تصريحات إدارة ترامب بشأن العلاقة بين تايلينول والتوحد، وما تبعها من تلميحات حول اللقاحات – والتي أظهرت كيف يمكن للخطاب غير المدعوم بالأدلة أن يُربك الأسر- وما تبعها من ردود علمية حازمة من مؤسسة علوم التوحد، يُعيد إلى الواجهة أهمية التشبث بالبحث العلمي الرصين والابتعاد عن الخطابات الأخرى. فالمعلومات الغير موثوقة لا تُهدد فقط الصحة العامة، بل تُعمّق من معاناة الأسر، وتُعيد إنتاج سرديات اللوم والوصمة في مجتمعاتنا. وفي السياق العربي، حيث لا تزال الكثير من الأسر تفتقر إلى الدعم النفسي والمعرفي الكافي، تبرز الحاجة إلى محتوى توعوي يُراعي الواقع المحلي ويُحصّن الأمهات من القلق والتضليل. إن الدفاع عن الحقيقة العلمية ليس ترفًا أكاديميًا، بل مسؤولية أخلاقية ومجتمعية، تُسهم في بناء بيئة أكثر إنصافًا ووعيًا، تُعزز جودة الحياة وتُعيد الاعتبار للأسر في ظل التحديات.
المرجع: